التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
إسبانيا .. الاتحاد بين قشتالة وأراغون، مقال د. راغب السرجاني، يتناول قصة الاتحاد بين مملكتي قشتالة وأراغون على يد فرناندو وإيزابيلا الكاثوليكيين
الاتحاد للقضاء على المسلمين
قبل الحديث عن هذه الفترة الحرجة من تاريخ مملكة غرناطة الإسلامية، لا بُدَّ أن نقف سريعًا أمام هذا العامل المهم الذي كان سببًا في الاحتضار السريع لآخر دول المسلمين في الأندلس، وهذا العامل هو اتحاد المملكتين النصرانيتين قشتالة وأراغون، بعد أن كانتا مملكتين مختلفتين متخاصمتين؛ تحارب كل منهما الأخرى وتعمل على القضاء عليها، بالرغم مما كان يربطهما من وحدة الدين والجنس، واشتراكهما -أيضًا- في عدد من الأهداف، والتي كان أهمها على الإطلاق هو القضاء على الإسلام في شبه الجزيرة الأيبيرية؛ خوفًا من أن يستحوذ على شبه الجزيرة ثانية كما حدث من قبل، فيقضي بذلك على سلطانهما، الذي يعملان على توطيده، ولو على حساب بعضهما البعض.
انشقاق في مملكة قشتالة
وقد ظهرت بوادر هذا الاتحاد سنة (879هـ= 1474م) عندما توفي هنري الرابع ملك قشتالة، فثارت بذلك حول تولي العرش مشكلة دقيقة، وهي أن هذا الملك لم يترك سوى ابنة صغيرة هي خوانا (ﭼنة)، ولكنَّ نَسَبَها إليه مع ذلك كان موضع شكٍّ، وكانت تُنسب إلى صديقه وصفيه الدوق بلتران دي لاكوﻳﭬا؛ ولذلك كان اسمها الشائع خوانا بلترانيخا، وكان يناصرها فريق صغير من النبلاء، في حين كانت الأميرة إيزابيلا أخت الملك هنري على العكس من ذلك، فكانت تتمتع بعطف الشعب القشتالي، ويناصر وراثتها للعرش فريق كبير من النبلاء؛ حتى إن أخاها الملك هنري قد اعترف بحقها في العرش، وأيد الكورتيس (مجلس النواب القشتالي) أحقيتها بالعرش عقب وفاة أخيها ألفونسو سنة (1468م)؛ ولذلك لم يكن ثمة لبس في أحقية هذه الأميرة في تولي عرش قشتالة خلفًا لأخيها.
زواج إيزابيلا وفرناندو
وكانت إيزابيلا قد تزوجت قبل وفاة أخيها ببضعة أعوام بابن عمها الأمير فرناندو الأرجوني ابن الملك خوان الثاني ملك أراغون، وقصة هذا الزواج أن الأنظار كانت تتطمح إلى إيزابيلا مذ كبرت؛ للاحتمالات القوية التي كانت تؤهلها لعرش قشتالة، وكان خوان الثاني ملك أراجون يتوق إلى خطبتها لابنه فرناندو؛ لما كان بين العائلتين المالكتين من أواصر القربى الوثيقة، ولأن ذلك سيقرب بالطبع سبل الاتحاد بين المملكتين؛ ولذلك كان فرناندو أول المتقدمين لخطبة إيزابيلا، ولكن أخاها الملك لم يرضَ عن اقتران فرناندو بأخته، وكان ينافس فرناندو في خطبة إيزابيلا عدد من الأمراء والنبلاء الطامعين في عرش قشتالة، مثل الأمير فرناندو الأرجوني؛ وكان من هؤلاء ألفونسو ملك البرتغال وكبير فرسان قلعة رباح، وقد وافق الملك هنري على أن ترتبط أخته بكبير فرسان قلعة رباح، إلا أن الأميرة كان لها رأي آخر؛ إذ إنها آثرت بعد إمعان النظر أن تقبل خطبة ابن عمها الأمير فرناندو الأرجوني؛ للبواعث نفسها التي جعلت أباه يحرص على هذه الزيجة، ولأنه يجمع بينهما من الجد بيت ملكي واحد، ووضعت شروط هذا الزواج بين الفريقين سرًّا؛ نظرًا لمعارضة الملك هنري لهذه الزيجة، فكان من هذه الشروط أن يتعهد فرناندو باحترام قوانين قشتالة وتقاليدها، وأن يجعل مقرَّ إقامته في قشتالة، وألا يغادرها دون إذن إيزابيلا، وألا يتخذ أية قرارات أو تعيينات في المملكة دون إذنها. وتعهد بالأخص بمتابعة الحرب ضد المسلمين.
وفي أكتوبر سنة (1469م) الموافقة سنة (874 هـ) عُقد الزواج في مدينة بلد الوليد -حيث كانت تقيم إيزابيلا في ذلك الوقت- في حفل خاص لم يشهده سوى قليل من الأصدقاء، ثم أخطرت الأميرة أخاها بعقد الزواج برسالة تشرح فيها بواعث إقدامها على ذلك.
إيزابيلا ملكة قشتالة
أُعلنت إيزابيلا في ديسمبر (1474م) عقب وفاة أخيها هنري ملكة لقشتالة وليون في بلدة شقوبية؛ حيث كانت تُقيم آنذاك، ودخلت مدن أخرى في طاعتها، ولكن الأمر لم يكن سهلاً؛ لأن ثمة فريق من النبلاء كان يناصر الأميرة خوانا ابنة الملك المتوفي، كما كان زوج إيزابيلا الأمير فرناندو الأرجوني يطمع هو الآخر في انتزاع العرش لنفسه؛ باعتباره آخر الأبناء من الذكور لعائلة قشتالة المالكة، ولكن إيزابيلا تمسكت بحقها، واتفقت مع زوجها على مزاولة الملك المشترك؛ فتكون إيزابيلا ملكة أصلية لقشتالة لها الرأي الأول في الأمور الجليلة، في حين يجري القضاء وتُسك العملة باسميهما.
وكان خصوم إيزابيلا في ذلك الحين وعلى رأسهم مطران طليطلة قد تفاهموا مع ملك البرتغال ألفونسو الخامس على تأييد سعيهم في تنصيب خوانا ملكة لقشتالة، وهي ابنة أخت ألفونسو الخامس، فغزا ملك البرتغال في مايو سنة (1475م) أراضي قشتالة، واخترق هضابها الشمالية حتى مدينة سمورة، وبادر فرناندو وإيزابيلا بالسير في قواتهما إلى لقائه، واشتبك الفريقان على مقربة من تورو بجوار سمورة، فهُزم القشتاليون في البداية، ولكن ألفونسو لم يبادر إلى الاستفادة من تفوقه، وطال الصراع بين الفريقين بضعة أشهر، وانتهى بانتصار القشتاليين.
الاتحاد بين قشتالة وأراغون
هكذا استقر الملكان على العرش بلا منازع، وفي سنة (1479م) توفي خوان الثاني ملك أراغون، فتولى ابنه العرش من بعده، وبذلك اتحدت المملكتان الإسبانيتان في ظلِّ عرش واحد بعد أن فرَّقت بينهما المنافسات والصراعات أحقابًا.
وكان فرناندو الخامس أو فرناندو الكاثوليكي -إلى جوار تمتعه بالقدرة الفائقة في الإدارة والسياسة والحرب- أميرًا لا وازع له، يجنح في سياسته إلى الغدر ومجانبة الوفاء، وكان رجل الفرصة السانحة، يلتمس إلى تحقيق أطماعه الكبيرة أيَّ الوسائل؛ مهما ابتعدت عن المبادئ الأخلاقية المقررة ومقتضيات الفروسية والوفاء، كما ظهر ذلك من قبل في سيرته، وكما سيظهر من بعد في تصرفاته ومعاملته للأمة الأندلسية المغلوبة.
وكانت زوجه الملكة إيزابيلا تتمتع بكثير من الذكاء والعزم، وكانت تُثير برقتها وتواضعها واحتشامها حب الشعب القشتالي وإعجابه؛ بيد أنها كانت تجيش بنزعة صليبية عميقة تذهب كثيرًا مذهب التعصب الأعمى، وكانت تقع تحت تأثير الأحبار المتعصبين وتنزل عند تحريضهم وتوجيههم، وكان مشروع القضاء على الإسلام في الأندلس يُذكي في نفس هذه الملكة الصليبية (التي تُنعت -أيضًا- بالكاثوليكية) أشنع ضروب التعصب، ويحملها على مؤازرة ديوان التحقيق الإسباني، أو ما عُرف خطأ بمحاكم التفتيش، فكانت تقرُّ كل ما جنح إلى ارتكابه هذا الديوان من الجرائم باسم النصرانية.
وفي الوقت الذي استقر الملك فيه للملكين الكاثوليكيين تحت راية إسبانيا الموحدة القوية، كانت مملكة غرناطة تدخل بعد سلسلة من الحروب الأهلية، وإهمال أميرها أبو الحسن علي بن سعد بن الأحمر لشئون دولته، وركونه إلى الراحة والدعة، وسعيه خلف ملاذِّه -إلى مرحلة خطيرة من الضعف والتمزق؛ لذلك فما أن استقر الأمر للملكين الكاثوليكيين حتى أشهرا الحرب على المملكة الإسلامية؛ ليبدأ هذا الفصل المؤسِّي من حياة المسلمين في الأندلس [1].
التعليقات
إرسال تعليقك